عُمرٌ جديدٌ ... د. رقية الظاهري

حضر المريض بعد أن قدَّم شكوى بسبب خطأ طبي فادح حسب ما يدَّعي، بدا غاضبًا يتطاير الشرر من عينيه ويقول: أنا ثلاثيني لا أعاني من أية أمراض، دخلت لعملية بسيطة وانتهيت بالعناية المركزة، ثلاثة أسابيع كدت أموت بكسور بأضلاعي

بالفعل الموضوع محيِّر جدًّا، تخيلت نفسي مكانه، وأي غضب سيعتريني، ولكن فلنكمل باقي القصة. بعد مقابلة الطبيب الذي بدا هادئًا جدًّا ألقى التحية على المريض وقال "أنا سعيد جدًّا برؤيتك بخير ولم تتأثر أعضاؤك بتوقف قلبك بالرغم من حضورك لتشتكي علي".

وبدأ يشرح بأن المريض أُدخل بالفعل لعملية بسيطة، وكانت أول عملية تجرى له بحياته، تم فحصه ومراجعة حالته من قبل وأثبتت خلوه من أية أمراض. ولكن أثناء البدء بوضع مواد التخدير تحسس من إحدى المواد التي بالمعتاد تعطى لجميع المرضى، ولكن من سوء حظه حتى قبل البدء بالعملية ردة فعل جسمه كانت كبيرة لهذه المادة، وهذا يحدث نادرًا جدًّا، تكاد تكون واحدًا في المئة ألف، فتوقف قلبه وبدأ الطبيب مباشرة بإنعاشه ثلاث مرات، توقف القلب وكسرت أضلاعه بسبب ضغط الإنعاش القلبي لإنقاذه، وبعد ذلك عاد النبض وتم وضعه في العناية المركزة.

إنها الصدف والأقدار، لا يوجد خطأ طبي، هي أعراض جانبية نادرة جدًّا، وتصرف الطبيب بطريقة صحيحة وسريعة لإنقاذه، ولطف الله به وكتب له عمرًا جديدًا.

صمت المريض لفترة وابتسم بعد ذلك مع استغرابنا وقال "ها أنا أحرز انتصارًا جديدًا على أمواج الحياة العاتية، أنا صياد ولطالما أركب البحر بمجداف حسن الظن بالله، لم ينكسر قارب نجاتي يوما بصخرة اليأس، ولطالما أغرقتني ذكرياتي في وسط البحر بين المد والجزر، قبل ثلاثة أسابيع من عمليتي كنت مبحرًا للصيد، وهبت عاصفة شديدة وعلت الأمواج، وحطمت أخشاب قاربي واختطف البحر زملائي، وتلاشت أنفاسي واضمحل أملي بالعودة للديار، سبحت بين أشرس البحار وأعتاها أمواجًا، ولكن بلطف الله صادفني مركب آخر وأنقذني، أمر نجاتي من توقف قلبي مألوف لديَّ فقد كتب الله لي عمرًا جديدًا للمرة الثانية".

خرج هذا الشاب ممتنًّا للحياة وللطبيب وهو عكس الصورة السائدة عند تقديم شكوى، ردة فعله خالية من أية انسداد فكري، وتفهم معنى الأعراض الجانبية ولم يغرق نفسه بدوامة الشك والتآمر، وتفهم ما حدث بحكمة وبكمية من التصالح الكوني مع الأقدار. ليست كل نتيجة غير مرغوبة هي إدانة للطبيب، نحتاج فقط أن ننظر للحادثة من زاوية أخرى. إياكم بنظرية المؤامرة، فلم يقسم الأطباء على التآمر على الناس وأذيتهم. ضع نصب عينك بأن هناك فهمًا خاطئًا لمهنة الطب في المجتمع، وهذا ما يتسبب في حدوث أزمة واحتكاك، ويتفاقم الوضع بتحميل الطبيب إزر المضاعفات الجانبية التي قد تحدث كأحداث الحياة العارضة ومتعارف عليها عالميًا في الكتب الطبية، ولكن ـ للأسف ـ المريض وأهله لا يحمل قاموسهم غير مصطلح الأخطاء الطبية.

هذه التجربة هي من التجارب الخالدة للمريض؛ كونها تجربة لا تنسى، وتشعره بأن الحياة لا تسير ضمن نطاق واحد، بل نحن نبحر فيها ونشهد كل يوم معجزة انتصار النور على الظلام، ونغزل من أشعة الشمس أسطوانة للأمل لنواصل مؤمنين بأن الضوء يخترق الزجاج رغم حدَّته، وننثر الإيجابية على طقوس حياتنا بإيماننا بالقدر أكثر من ثقتنا به، وأن الله قادر على إخراجك من خرم إبرة لتولد لك الحياة من جديد.

 

د. رقية بنت إسماعيل الظاهري

طبيبة مختصة في قانون وأخلاقيات مهنة الطب

سلطنة عمان